بضعة خواطر عن الحداثة

تتميّز أغلب المشكلات في المنطقة والتي تعيق توغّل الحداثة فيها بأنها نفسية الطابع أكثر منها سياسية أو اقتصادية، وهي حقيقة تتجلّى بوضوح من خلال استعراض موجز لواحدة من أهم تلك المشاكل: عدم قدرة شعوب المنطقة على التصالح مع ضرورة الانتقال من الثقافة التقليدية نحو اندماج كامل بثقافة الحداثة وقيمها. إذ يعتقد شعوب المنطقة أنه بوسعهم الاستفادة من كل الفوائد التي تقدمها الحداثة مع المحافظة على مجمل القيم التقليدية والتي توارثوها أباً عن جدّ باسم الدين والعادات والأعراف.

وتتجلّى هذه النزعة عند بعض بالاصرار على القدرة على الاستفادة من التقنية الغربية فقط دون تبنّي أي من عادات وقيم الغرب، بينما يذهب البعض الآخر على التأكيد على إمكانية تبنّي بعض العادات والمظاهر الغربية، خاصة فيما يتعلّق باللباس والتبهرج، مع المحافظة على جوهر القيم التقليدية، خاصة فيما يتعلّق بوضع المرأة في المجتمع.

لقد كان هذا العجز عن قطع الحبل السري الذي يربطنا بالماضي السمة الأساسية لحياتنا لأكثر من قرن، لهذا نجد مجتمعاتنا اليوم على حافة انتكاسة هائلة نحو الوراء ونحو تبنّي القيم الأكثر ظلامية وانغلاقاً. لقد فشلنا في اكتساب الميزات الحقيقية التي تقدمها الحداثة، وذلك لأنا لم نشارك في صنعها من ناحية، ولهذا مازالت تبدو بالنسبة لنا وكأنها “بضاعة أجنبية،” ولأنا، من ناحية أخرى، ما نزال نصرّ على عدم قبول قيمها الأساسية متحجّجين بنقصانها وتعارضها مع القيم الموروثة المقدّسة.

والحداثة بالطبع منتج منقوص، مثلها مثل كل الأنظمة التي وضعها البشر، لكن المساهمة في تحسينها وتكميلها لا تتمّ إلا من خلال قبولها والانفتاح على أفكارها وفلسفاتها وقيمها، خاصة إصرارها على النزعة الفردانية وعلى حقوق الفرد. فهذه النزعة هي إحدى السمات الأساسية للحداثة، وهي التي تسمح لكل فرد أن يشكّل المزيج الخاص به من قيم الحداثة والثقافة الموروثة، وأن يعيش وفقاً لهذا المزيج بكل تناقضاته وبكل حرية، طالما أنه لا يتعدّى على حريات الآخرين.

أن هذه السمة للحداثة التي تسمح لمن لا يؤمن بكل معطياتها العلمية والثقافية أن يمارس حريته في رفض هذه المعطيات هي نقطة القوة الأساسية فيها، ونقطة ضعفها في آن. ذلك لأنها تفسح المجال للرافضين، حتى المتشدّدين منهم، بالتآمر عليها وعلى العمل على تقويض مؤسساتها إن إمكن.

لكن الدفاع عن الحداثة لا ينبغي أن يتمّ من خلال كبت الحريات، مما يؤدي إلى الوقوع في فخّ المساهمة في تقويضها ومساعدة أعداء الحدثة، بل من خلال التيقّظ الدائم للمخاطر المحدقة بها ومكافحتها عن طريق المؤسسات والقوانين التي تشرعها الديموقراطية.