لا، ليس هذا هو الخيار الماثل أمامنا اليوم، الخيار الحقيق هو خيار بين حالة الاحتضار الراهنة وبين الرهان على ضرورة التغيير الجذري وعلى كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك بالرغم من ضبابية الرؤى المطروحة وانفتاحها على كل أنواع الاحتمالات. وإذا كانت أذهان الناس اليوم ما زالت مزدحمة بالكثير من علامات الاستفهام فيما يتعلق بالمعارضة، كمفهوم وشخصيات وتنظيمات، فإن علامات التعجب المتطاثرة باضطراد والتي تحيط بطبيعة ونشاطات الأنظمة الحاكمة فيها ما يكفي من إدانة للواقع الراهن، لكي يبدأ الناس بالمراهنة الفعلية على ضرورة التغيير. لكن لا يمكن لهذه المراهنة الفكرية أن تتحول إلى عمل، إلا من خلال طرح تحريضي إيجابي المضمون، طرح يحتوي على تأييد ووصف لواقع جديد ممكن وضروري، وليس مجرد رفض لما هو كائن.
Month: October 2008
من المسؤول؟
هل يمثل الانطباع السائد بين طبقات “العامة” لشعوبنا الشرقأوسطية، والذي يبرأ حاكم البلاد من جريمة المشاركة المباشرة في عمليات الفساد والقمع الممارسة ضد الشعب في كل يوم، وذلك من خلال الاصرار على جهل الحاكم المطبق حيال استشراء هذا الظاهرة بين صفوف حاشيته من كبار المسؤولين وصغارهم، أو على عجزه عن معالجتها بفعالية كونها تمسّ كل من حوله، حتى أفراد عائلته الأقربين… هل يمثل هذا الانطباع قناعة شعبية حقيقية وراسخة؟ أم هل هي مجرد قناعة تكتيكية تسمح لصاحبها بالتعلّق بهدب أمل ما، مهما كان هلامياً، في ظل غياب قيادات ورؤى شعبية حقيقية قادرة على سد فراغ الأمل وتحريض الناس على التفكير الجدي بقدرتهم على تحقيق مستقبل أفضل والحاجة الملحة على العمل والتضحية من أجله؟ هل تقع مسؤولية التقصير هنا على عاتق “عامة الناس” حقاً؟ أم هل كانت مشكلتنا دائماً مشكلة تلك “النخب القائدة،” الحاكمة منها والمعارضة، التي تصر على التكلم باسم الشعوب وهي لا تمثل في الواقع إلا همومها ومصالحها الخاصة؟
عهد الثورات آت
يخطئ كل من يعتقد أن عهد الثورات في العالم قد انتهى، لمجرد أن شعوب الغرب تبدو وكأنها استقرت على أنظمة تسمح بالتعامل مع مختلف الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بأساليب سلمية ومن خلال مؤسسات وبنى مدنية وديموقراطية الطابع. ويخطئ من يصر على قناعته بأن شعوب الشرق خانعة بطبعها، وبالتالي لا يمكن لها أن تثور. فالمعطيات الراهنة، والتي وصفتها التقارير المختلفة التي أصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السنين الماضية، وإن دلّت على شيء، فعلى اقتراب عصر الثورات في شرقنا. ولن يؤدي تمترس الأنظمة المختلفة وراء أساليبها القمعية المعهودة، واصرارها على المضي نحو الخلف بخطاً حثيثة إلا إلى استفزاز الروح الثورية عند الشعوب وتفعيل مخزونها التغييري. لكن المحرض الأساسي للعملية الثورية لن يأتي إلا من خلال طرح إيجابي لرؤية وأفكار مستقبلية واعدة وواقعية. هذا هو التحدي الحقيقي الذي يتوجب على مفكري المنطقة التعامل معه بفعالية، لكي لا يتركوا الساحة للطروحات المؤسّسة على استغلال جهل شعوبنا وبؤسهم الحالي في مسعى لتكريسه، واستبدال الواقع بواقع أسوأ. فالثورات بطبيعتها تبقى منفتحة على كل الاحتمالات.
النموذج الصيني
غالباً ما تتكلم الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط بكثير من الاعتزاز والفخر عن النموذج الصيني في التنمية، داعية إلى، ومدعية في آن، الاقتداء به. يتوارد إلى الذهن في هذا الصدد خاطرتان، الأولى: أن الواقع الديموغرافي للصين يحتم وجود شبكة كبيرة وآلية معقدة لصنع القرار تسمح بوجود تنوع كاف من الآراء والتوجهات لإدارة أكثر فعالة لعملية التنمية، على الرغم من الطبيعة السياسية المغلقة للنظام السياسي الصيني، فلا تتمحور حول مزاجيات أفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة؟ من ناحية أخرى، لا يسعنا إلاّ أن نتسائل هنا عن ماهية هذا الإصرار على النموذج الصيني بالذات، وليس النموذج الهندي مثلاً؟ فالنموذج الهندي أيضاً تعامل وبكفاءة عالية نسبياً مع موضوع التنمية ذاته، وهاهم الآن يتنافسون مع الصين في سباق نحو الفضاء. لكن الفرق هنا أن النموذج الهندي يقوم على أسس ديموقراطية فيما يتعلّق بالعملية السياسية. وهنا، كما يقولون، بيت القصيد. فالتنمية ليست ما يهم أنظمتنا الحكيمة هنا، لا، إنه الاستئثار بصنع القرار وغياب المحاسبة الشعبية عن الساحة.