الواقع واليقين

11 تموز، 2006 / مدونة “أقوال وأفكار”

إذا كذّبنا كلّ شيء لأنه ليس بوسعنا أن نتيقّن من معرفتنا للأشياء، سنكون كمن جلس رافضاً استخدام قدميه حتى جاءه الهلاك لأن ليس عنده جناحان ليحلّق بهما. جون لوك 1632-1704

حوار

ابن خلدون: العلم لا يُبنى على اليقين، بل على الشك، والمستقبل لا يصنعه الحالمون بل أولئك الذين يحسنون إعادة ترتيب أولوياتهم ليفسحوا المجال للتعامل مع الواقع بحرية. فالأحلام تقيّد المرء بأغلال المبالغة في التوقعات. هذا لا يعني أن يتخلّى المرء عن حلمه بالطبع، لكن، على المرء أن يُدرك أن الأحلام بذاتها ليست خطط عمل وأنه لا يمكن لها أن تتحقّق ما لم تتوفر لها هذه الخطط. وكلّما عظم الحلم، كلما تعقّدت الخطة وزادت الحاجة إلى إعادة ترتيب الأولويات باستمرار وكثرت المساومات التي لابد للمرء من أن يقوم بها على الطريق نحو تحقيق حلمه.

ابن سينا: بالفعل، العلم هو سعي حثيث ودائم نحو يقين قلّما يتحقّق. وهذا ما يفرّقه عن الإيمان ويفضّله عليه. لكن للشكّ أغلاله أيضاً، وحده الإقدام هو الذي يقطع الشكّ باليقين، وإن بقي هذا اليقين نسبياً ككلّ يقينيات البشر.

ابن سينا: على المرء أن يتذكّر في هذا الصدد، أن عباس بن فرناس لم يكتفِ بالحلم بالتحليق، بل سعى إلى ذلك بكل ما لديه من جهد وإبداع، فكاد أن يحقّق هدفه.

الكندي: إنها مشكلة بالفعل أن نرغب في تحقيق أمانينا دون عمل وجهد وسهر وتضحية، إنها عقلية طفولية إلى أقصى الحدود، وإن كانت تصيب الكبار أيضاً في الكثير من الأحيان، وإلا بماذا نفسر انتشار الأديان بأكثر أشكالها تقليدية، إن لم نقل ظلامية، حتى في أكثر العصور ازدهاراً من ناحية سطوة اليقينيات العلمية على الواقع المعاش؟ إنها ظاهرة انتظار المسيح حتى يأتي بالمعونة الإلهية، لكن، على المرء أن يكسب حظّه. وإذا ما سلّمنا جدلاً هنا بحقيقة الوحي، ألا يسأل المسلم نفسه لماذا نزل الوحي على محمد دون غيره؟ ألم يكسب محمد حقّ تلقّي الوحي بحسن سيرته وخلقه (وفق معايير ذلك الوقت على الأقل)؟ وعلى المرء أن يذكر هنا أنه لم تكن في ذلك الوقت عبادات ثابتة، لتعدد القبائل الآلهة، وبالتالي، لم تكن العبادات والطقوس هي الوسيلة الوحيدة أو الأساسية لكسب رضى الإله الواحد، أخلاق التعامل اليومية كانت أكثر الوسائل نجاعة، وماتزال. لماذا يتناسى البشر أهمية المعاملة؟ إنها المصالح بالطبع، الضيق منها والواسع.

ابن خلدون: يبدو من نافل القول أن نؤكّد على أن التغيير يتطلّب وجود خطة ما والقيام بعمل ما وعدم الركون إلى الغيبيات. لكن للشعوب مصالح، كما نوّه الكندي، أو بالأحرى للشعوب مفهومها الخاص لمصالحها، مفهوم قد يبدو لنا عار تماماً عن الصحة، لكنها تبقى مقتنعة به مالم نحدّد عناصره وطبيعته ونجد طريقة لتغييره أولاً قبل الانطلاق لتغيير الواقع. وبعد هذا كلّه علينا أن نقرّ أن للواقع سطوته على مخيّلة الشعوب، فهي حتى إن أرادت التغيير لن تجد العزيمة لذلك من تلقاء نفسها، فالعزيمة من مواصفات القادة، ومالم يكن هناك قادة، لا يمكن للتغيير أن يحدث، ومالم يتمتّع هؤلاء القادة، أو بعضهم على الأقل، بالمواصفات “الصحيحة،” لا يمكن للتغيير أن يكون إيجابياً، إلا في تلك الحالات التي يكون بها أي تغيير، مهما كان،  إيجابياً لأنه يأتي بمثابة خلط للأوراق وكسر للجمود وتحريك للأوضاع بما يسمح لطرح الخطط التغييرية وفرز الأشخاص ذوي المواصفات القيادية المناسبة مع مرور الزمن.

باختصار، علينا أن نحدّد ما يلي: ما هي مواصفات الواقع الذي نسعى إلى تغييره؟ وما هو المفهوم الخاص الذي تملكه الشعوب المعنية للواقع ولمصالحها الحالية، والذي يجعلها تبدو مستكينة إليه، مهما بدا لنا مستهجناً بل ومضراً؟ ومن ثم علينا أن نحدّد الآليات التي يمكن من خلالها كسر سلطة هذا الواقع على مخيلة الشعوب المعنية. وربما اضطررنا في هذا الصدد إلى اللجوء إلى بعض من تلك المرتكزات الغيبية التي قد لا تبدو مناسبة لنا. والسؤال هنا: إلى أي حد نرغب في التغيير، وهل نحن على الاستعداد لدفع ثمن ذلك؟

الفارابي: الرغبة في حرق المراحل وتجاوزها جميعاً بخطوة واحدة تبدو ملحّة دائماً، لكن، حتى الطيور لا تتقن التحليق قبل اتقانها للمشي. والمشكلة في تعلّم المشي أنه مملّ وصعب وغالباً ما يبدو بغير ذي صلة بالقدرة على التحليق. وكما أن للواقع سطوته، فللمجهول أيضاً هيبته، والخوض في المجهول رغبة في التيقّن من طبيعة الحقائق المطروحة يبدو دائماً كمغامرة غير محمودة العواقب، والشعوب بطبيعتها لا تحبّ المغامرة التي تبقى فيما يبدو من شيم الأفراد. أما الشعوب فتحب الأمان والاستقرار وتركن إليهما حتى وإن جاءا على حساب الحريات. فللشعوب أولويات تختلف عن تلك التي يحبّذها الأفراد. ولن تغير الشعوب أولوياتها إلا بمزيج من الإكراه والإقناع وربما بعض التلاعب أيضاً. وهذا هو أسّ السياسة حتى في أكثر الدول ديموقراطية. والمشكلة هنا تكمن في أن الشعوب ليس مخطئة دائماً ولا الأفراد محقّين دائماً، وكثيراً مما يفرضه الأفراد على الشعوب يجرّ إلى الويلات ويستجرّها. فللشعوب حكمة من سكونها غالباً ما تكون أفضل من حكمة الأفراد، بصرف النظر عن النوايا، فحسن النوايا لم يكن أبداً ضمانة للنجاح. وربما كان من الأفضل في بعض القضايا أن نترك الخيار الأخير فيما يتعلّق بالتغيير وطبيعته وشموله للشعوب ذاتها، فالثمن الذي تدفعه الشعوب هو دائماً أكبر من ذلك الذي يدفعه الأفراد.