الحرية والتخاذل – 2

8 تشرين الأول، 2006 / مدونة “أقوال وأفكار”

الفارابي: في الواقع، وبغض النظر عن تعريفنا للخير والشر، وهو موضوع هام بحدّ ذاته، ولم تكن إثارته في هذا السياق عبثية على الإطلاق، تبقى مسألة الحرية العامة مرتبطة بالإرادة الشعبية، وفي هذا الصدد تحضرني المقولة التالية للقاضي الأمريكي لويس براندايس (1856 – 1941): “أعظم خطر يواجه الحرية:  الشعب الخامل.”

لكن خمول الشعب، كما خلصنا أدناه، يبقى محكوماً باختلاف في الأولويات أو، كما خلصنا أيضاً، إلى اختلاف في تعريف مفهومي الخير والشر أو  الحسن والسيء، ما بين نخبة فكرية ما ترغب في الثورة ضد تهميشها، مهما كان عرضياً، وأخرى أكثر ارتباطاً بالسلطة وربما الشعب.

إذ غالباً ما صبّ فقهائنا جامّ غضبهم على كل من طالب بالتغيير والثورة بحجّة أن التغيير فتنة، والفتنة، كما قيل لنا، “نائمة، لعن الله من أيقظها.” هذا الاصرار على الاستقرار بصرف النظر عن الثمن وعن الحرية، وعلى تحويل الاستقرار إلى قيمة إجتماعية وأخلاقية محتفاً بها، يتناقض بشكل مثير مع دعوة توماس جفرسون مثلاً إلى ثورة دورية الطابع، تحدث مرة كل عشرين سنة، بهدف الحفاظ على نظام حكم أكثر تجاوباً مع متطلّبات الشعب وأبعد ما يمكن عن القهر والظلم والجور والفساد (لأن متطلبات الله بالنسبة لهم أكثر أهمية من متطلّبات الشعب طبعاً).

وفي الحقيقة، وبغض النظر عن إمكانية تحقيق العدالة والحفاظ على الحرية من خلال ثورة دورية، إن لم نقل دائمة، كما في خطاب الكثير من المنظّرين الشيوعيين، نرى هنا كيف تمّ تحويل مفهوم التغيير والحركة إلى قيمة مناقضة لقيمة الاستقرار. وعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي، لم يتبنّى هذا الخطاب الثوري لأحد أهم آبائه المؤسّسين، لا شكّ أن لمفهوم التغيير في الثقافة الأمريكية دور كبير في تشكيلها، خاصة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.

ولعلّنا نرى اليوم في ذلك الاختلاف ما بين عالمنا وعالم الغرب، وخاصة أمريكا، انعكاساً طبيعياً لهذا الاختلاف في القيم، ما بين حضارة وثقافة تتغنّى بالثبات والاستقرار وبالحفاظ على “الثوابت الوطنية،” وأخرى تتغنى بالتطوّر والتغيرّ والتحوّل والتقدم. بل الأنكى، أن النزعة التغييرية إن تم طرحها في عالمنا، فالهدف هو التغيير باتجاه الماضي، بينما يتجه باقي العالم نحو المستقبل.

والسؤال الذي أريد طرحه هنا: ماذا نفعل عندما يختار الشعب كسر حاجز الخوف والتخاذل والخمول طارحاً على الساحة بديلاً يبدو في ظاهره أنه أكثر شراً وبلاءاً من الواقع الراهن الذي ما فتئنا نشتكي منه؟

حوار

ابن خلدون: الدول لا يمكن أن تتقدّم ما لم يفرز الشارع بدائله وخياراته، بين الحين والآخر على الأقل، وربما كان هذا ما يحاول توماس جفرسون أن يقوله عندما دعا إلى ثورة كل 20 عاماً. ويبدو أن الطريقة الوحيدة للتعامل مع البدائل التي يفرزها الشارع هي الوقت. أما النخبة التي تخاف الشارع إلى درجة التمسّك بالوضع الراهن على الرغم من كلّ مساوئه، فهي نخبة مفلسة، ليس من المنطلق الإخلاقي بالضرورة، بل من المنطلق السوسيولوجي. إذ عندما تصل النخبة إلى هذه المرحلة من الانقطاع عن الشارع تفقد بالتالي قدرتها على التأثير عليه، مما يسمح له بأن يفرز بدائله الخاصة، مهما كانت غير مرضية ومكروهة من قبل النخبة. والمسؤولية هنا ربما تقع أكثر على عاتق الأنظمة القمعية منها على عاتق النخبة، لكن النتيجة واحدة. ومع الوقت، سيفرز الشارع بدائله، وجلّ ما يمكن للنخبة المفلسة أن تفعله هنا هو محاولة إعادة التواصل مع الشارع من جديد خلال المرحلة التالية. والتضحية في هذه الحال ليست خياراً، بل ضرورة حتمية.

ابن سينا: على الرغم من أني غالباً ما أضع يدي على قلبي كلّما تكلّم أحدهم عن الضرورات التاريخية، غير أني أجد نفسي “مجبراً” للموافقة معك فيما يتعلّق بهذا الأمر. بالفعل، وإذا ما أرادت النخبة أن تحافظ على قدرة ما على التأثير على مجرى الأمور في هذه المرحلة، وعلى استعادة مكانتها القيادية في المرحلة القادمة، عليها أن تعدّ نفسها لتقديم عدد كبير من التضحيات. وهي إن لم تفعل ذلك مختارة، ستعمد إلى ذلك مضطرة. ففي هذه الأزمنة المحمومة، إما أن تغامر وتضحّي، أو أن يُضحّى بك، حتى وأنت جالس في وسط بيتك تظن أنك قد كفيت الدنيا خيرك وشرك. لكن إيجابيات الحالة الأولى تكمن في وجود فرصة ما، مهما كانت ضئيلة على النجاة، وفي القدرة على كسب تأييد شعبي ما، وبالتالي على التأثير على مجريات الأمور، أو بعضاً منها على الأقل، نتيجة عامل الشجاعة المرتبط بالموقف – أي باختيار المواجهة في وجه كل الصعوبات والمخاطر.