القيد والمعرفة

27 تموز، 2006 / مدونة “أقوال وأفكار”

لا ينبغي لعصر أن يقيّد نفسه ويدبّر ليكون العصر التالي له غير قادر على تنمية معرفته، مهما كانت عرضية، وعلى تطهير نفسه من الأخطاء، وعلى التقدّم في مجال التنوير. بل سيكون هذا جريمة بحقّ الطبيعة الإنسانية التي يبقى توجهها الحقيقي هو إحراز هذا التقدّم، وسيكون رفض الأجيال المنحدرة من ذاك العصر لتلك القيود المعلنة مبرّراً لأنها صيغت بطريقة غير مناسبة بل وشريرة. إيمانويل كانت (1724-1804)، “ما هو التنوير،” (1784)

حوار

الفارابي: للموروث قيود لا تدركها العقول، وسلطة لا تتحرّر منها الأنفس وإن شُقّت. الصراع مع الموروث بعد فترة من الاستسلام التام لسلطته معركة خاسرة، علينا أن نبدأ الخلق من جديد.

ابن خلدون: كل عصر يقيّد ما يليه، وإن لم يقصد ذلك، ما لم يجعل من الإبداع الفردي ركيزة وضرورة وواجباً. فالعصر الذهبي للإنسانية ليس حقبة غارقة في القدم والتاريخ بل اكتشافاً مايزال تائهاً في غياهب المستقبل منتظراً أن نجده ونبنيه.

الكندي: التصدّي للموروث صراع أجيال، والمعركة هنا معركة أفراد في المقام الأول، لأن الفرد هو الركيزة الأساسية للإبداع والمعرفة، وما لم يجتهد الأفراد في التصدّي للموروث، بغض النظر عن الثمن الذي غالباً ما سيكون باهظاً، سيبقى الموروث يفرض سيطرته على العقول والأنفس حتى يستيقظ الفرد فينا و ينتفض ضد عقلية الرعية والقطيع.

ابن رشد: وهل بوسعنا أن نبدأ خلقاً جديداً دون التعامل مع الموروث؟ خاصة عندما نصرّ على أن سلطة هذا الموروث على الأنفس تكاد تكون مطلقة؟

الفارابي: مقصدي كان التوضيح أن الصراع صراع أجيال، وأننا بحاجة إلى أفكار جديدة نعيد من خلالها تقييم الموروث القديم. أما فكرة الاستناد إلى المورث في محاولتنا لاستيعاب الجديد فلم تعد ممكنة في هذه المرحلة لاتساع الهوة المعرفية ما بين الإثنين، ولأن حاجتنا المادية إلى الجديد أكبر بكثير منها إلى القديم.

لكن، لا مفرّ من الاعتراف هنا من أن الحاجة المعنوية إلى استمرارية ما مع الموروث تشكّل حاجة ملحّة لها سطوة حقيقية على مخيّلتنا. فالموقف الذي أدعو إليه هو في الواقع موقف نظري بحت الهدف منه التحريض على السير في اتجاه معين، وعلى معالجة الأمور من زاوية نظر معينة. لكن تحقيق قطيعة كاملة مع القديم يبقى أمراً غير قابل للتحقيق بالمطلق، على الرغم من ضرورته.

وأنا أتكلّم هنا عن القطيعة النفسية بالتحديد، لأن القطيعة المادية قد تحقّقت إلى درجة كبيرة، ليس فقط بمفهومها السياسي أو الاقتصادي أو الإجتماعي، لكن أيضاً بمفهومها الثقافي، فآثار الحضارة المعاصرة، وهي حضارة غريبة حتى الصميم شئنا أم أبينا، موجودة في كل مكان في حياتنا وثقافتنا والأدلة أكثر من أن تعدّ وتحصى، ولعلّ في طريقنا الحالية في الملبس والمأكل والبناء خير دليل على هذا الأمر.

القطيعة المرجوة هنا هي قطيعة نفسية إذن، وهي، عند تحقّقها ستخلق فسحة نفسية كبيرة للعمل من جديد وللتفكير الخلاّق وللإبداع غير المحدود وللانفتاح على كل الثقافات الأخرى والموروث الإنساني بعامة، بما فيه الموروث الإسلامي والقبل إسلامي، مما يجعلنا أكثر قدرة على التعامل معه بشكل أقرب إلى الموضوعية والعلمية ويسمح لنا بالمشاركة في خلق ثقافة جديدة نكون فيها أصدق مع أنفسنا ومع إنسانيتنا.