اللامركزية والكورد والثورة

الواقع على الأرض ينبئنا بأن الأكراد قد تحصّلوا على نوع من الحكم الذاتي في المناطق التي يشكّلون فيها الأغلبية في هذه المرحلة، ونظراً لتاريخ الاضطهاد الذي تعرّضوا عليه، من الصعب تخيّل سيناريو يتم من خلاله التنازل عن هذا الأمر. اللامركزية في هذه الحالة هي طريقة للحفاظ على كيان الدولة مع السماح للأكراد بالمحافظة على ما يعتبروه مكاسب وحقوق. مع الوقت، وإن لم نتمكّن من إعادة بناء جسور الثقة المهترئة ما بين المكوّنين العربي والكوردي على المستويين المحلي والوطني الانفصال قد يفرض نفسه على الساحة في نهاية المطاف، استناداً إلى حق المادة 14 من ميثاق الأمم المتحدة: حق تقرير المصير.

من ناحية أخرى، وفيما لو نجحنا في إعادة بناء جسور الثقة ما بين شعبيننا، فهناك ما يكفي من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والديموغرافية والنفسية لتساهم في أن يختار الأكراد البقاء في سوريا. الانفصال ليس الخيار الطبيعي والسهل للأكراد كما يتصوّر البعض، بل هو الخيار الأصعب والأخير في المعادلة، هو الخيار الذي يمهّد له فشلنا في التعامل مع الخيارات الأخرى بالجدية والعناية المناسبة. هناك اختلاف جذري ما بين تجربة الأكراد في سوريا وتجربتهم في العراق. لقد تكونت عبر الزمن لدى كورد سوريا، وعلى الرغم من تجربة الاضطهاد والتهميش التي تعرّضوا لها، هوية سورية حقيقية تجعلهم يشعرون بانتماء حقيقي لهذا الوطن ككل، وليس فقط إلى جزء منه. وانفصال أكراد سوريا له تعقيدات كثيرة قد تؤثر سلباً على مشروع إنشاء دولة كوردية في العراق، والذي دخل في مراحله الأخيرة، وما قد أصبح مبرّراً في العراق من منظور عالمي بل وإقليمي نتيجة لتجربة تاريخية مريرة، لايوجد له مبرّراته في سوريا حتى الآن، والأكراد يدركون ذلك قبل غيرهم.

قد يقول البعض أن كورد سوريا يريدون أن يكونوا هنا وهناك في الوقت ذاته: أي في العراق وسوريا وتركيا. لكن، ماذا في ذلك؟ اللامركزية وعلاقات ودية مع العراق وتركيا ستعطي الأكراد في سوريا فرصة كبيرة لينتموا إلى كوردستان وسوريا في آن، تماماً كما يمكن للعرب أن ينتموا إلى سوريا والوطن العربي في آن، وبالتالي ستسمح لهم بالحفاظ على عنصريين أساسيين في تركيبة هويتهم. لكن الانفصال سيؤدي إلى شرخ في الهوية عند الكثير من أكراد سوريا، وهم يدركون ذلك أيضاً. لذا، علينا أن نتعامل مع طروحات اللامركزية على نحو أقل تشنجاً، لأن التشنّج وليس الطرح هو الأمر الذي قد يمهّد الطريق نحو الانفصال كخيار أخير. علينا أن ننسى الإيديولوجية ونعيد زيارة المفاهيم بناءاً على ما نراه على أرض الواقع.

كما ينبغي علينا في هذا الصدد أن ننوّه إلى أن اللامركزية ليست مهمّة فيما يتعلّق بالأكراد فقط، هي مهمّة أيضاً لسكان الدير والرقة ودرعا وإدلب وحمص وحماة والساحل إلخ. كل منطقة من مناطق سورية لها خصوصية معينة، والحكم المركزي لم يحترم خصوصية هذه المناطق ولم يحسن إدارة عملية التنمية فيها. والوقائع على الأرض تنبؤنا أيضاً أن اللامركزية أصبحت واقعاً معاشاً لمعظم المناطق السورية أيضاً، وأن الأمر لاينطبق فقط على المناطق ذات الأغلبية الكوردية. ومن هذا المنطلق أيضاً، أي من خلال قراءة الوقائع كما أصبحت على الأرض اليوم، ربما كان من الأفضل والواجب أن نتسائل: من قال أن على اللامركزية المنشودة أن تستند بالضرورة على تركيبة المحافظات القائمة حالياً؟ إذ ربما كان من الأفضل اعتماد المناطق كمرجع أساسي في التركيبة اللامركزية. في سوريا 14 محافظة مؤلّفة من 63 منطقة، والمجالس الثورية التي نشأت في ظل الثورة تعكس هذه التركيبة المناطقية أكثر من تركيبة المحافظة. وربما كان في الأمر دلالات عملية علينا الاستفاد منها.

بمعنى، أننا إذا أردنا أن نسلّم بأن اللامركزية ستمهّد إلى انفصال الأكراد، على الأقل في الحسكة، هل ستؤدي اللامركزية أيضاً إلى انفصال دير الزور ودرعا والسويداء وحلب أيضا؟ ألن تخدم اللامركزية تطلّعات سكان هذه المناطق دون أن تؤدي إلى حلول انفصالية؟ هناك في سوريا 20 مليون عربي، فلماذا نصرّ دائماً على معالجة مسألة اللامركزية فقط من منظور الأكراد وما قد يفعلوه. لماذا لانسأل أنفسنا إذا ما كان يمكن للنظام اللامركزي أن يخدم تطلّعات الشرائح العربية أيضاً؟

إن الانتخابات الحرة والنزيهة التي شهدتها سوريا في 1947 و1949 و1954 عكست الانتماءات المناطقية بشكل واضح، وأنا واثق، بعد متابعة التطورات على الأرض عبر الشهور الماضية، أن هذه الانتماءات قد عادت إلى الساحة وبقوة، وأنها ستفرض نفسها على العملية السياسية مرة أخرى. وفي الحقيقة يمكن إسباغ الكثير من الخلافات التي تحدث بين حركات المعارضة والمعارضين في المهجر إلى التباين في خلفياتهم المناطقية أيضاً. إن إصرارنا على التركيبة المركزية سيضع المكوّنات المختلفة لمجتمعنا في حالة صراع على الدولة تماماً كما حدث في السابق، لكن اعتماد التركيبة اللامركزية المناسبة سيفسح المجال أمام الجميع لتأسيس فضائهم الخاص والانطلاق من خلاله إلى الساحة الأكبر. في رأيي هذا هو الحل الأفضل لبنية الدولة في المستقبل من التركيبة المركزية خاصة نظراً للتجربة التي مررنا بها عبر العقود الماضية.